شريهان وكوكو شانيل حكاية فن وتحدّي وجمال
امرأة الألم والفن والجمال تصنع معجزتها. الألم يزيدها شفافية والفن ينحتها أسطورة والجمال خارطة توقع بالقلوب.
شريهان العائدة كأنها لم تغب. المسرح يشكل بدايتها وحضنها وفيه تبزغ كفراشة تتآلف مع الضوء وتعيد وهجه.
هي اليوم كوكو شانيل لكن في كل آن هي نفسها. تلعب دور مصممة الأزياء الفرنسية التي صنعت ثورة من قماشها ومحترفها، مبتدئة من حياة الشظف والقهر في ميتم مرمية عند حافة الاهمال متنقلة في حانات باريس تغني وترقص وهي لا تجيد أياً منهما. ثم تنطلق نحو بناء محترفها الصغير لتصميم الأزياء بمساعدة الحبيب الذي قدر موهبتها وغادرها بعد النجاح القوي.
بين شانيل وشريهان تقاطع الكبار الذين يحفرون مسيرتهم بالألم والإصرار. ويصنعون الشهرة التي يخلدها الزمن على أنها حالة مستعصية من الصعب أن تكرر. كوكو شانيل هي الموضة كما تحب أن تسمي نفسها وشريهان ولدت وفي فمها ملعقة ذهب تعرف كيف ترتدي الموضة وتجعل من حضورها أيقونة الأناقة.
الشغف محرّك لا يعترف بعوائق، يبني من الجماد حياة ويرفع من القلّة أمجاد. هذا الشغف سليقة فطرية عند الفتاة اللطيمة المتروكة (بدون أم أو أب) غابرييل بونور شانيل أو كوكو شانيل الذي جعل منها أهم مصممة أزياء في القرن العشرين، وما زال اسم محترفها عنوان الفخامة حتى يومنا هذا. كل ما حققته بات خالداً حتى عطرها شانيل 5 الذي ما زال حتى الآن عطر الأنوثة والرقة. وشريهان تلتقي معها بالشغف والألم والفقدان فهي التي عانت فراق شقيقها الشاب الفنان عمر خورشيد الذي كان سندها، ثم فراق الأم ومن بعدها حادث السيارة الذي غيّر حياتها، والسرطان النادر الذي أصابها في الغدد اللعابية.
كل هذه الأوجاع لم تثنها عن فجر البزوغ مجدداً. فعادت تحتفل بالأمل وتشق طريقها نحو فن لا يذبل. تحضر كاملة عارفة قدر نفسها متوجة بالألق والإبهار.
استعراض مسرحي لمدة ساعتين أخذ ثلاث سنوات من التحضيرات والعمل أعاد عصفورة الفوازير الى مكانها، تغني وترقص وتمد جسور الأمس نحو الحاضر الفني، وتتماهى في عيوننا كأن الزمن لم يعبر عندها.
هي التي قاست المحن طويلاً وعاشت عذابات الوجع لأكثر من نصف عمرها. عرفت شريهان كيف تبزغ من وجعها وتعود شرنقة تبني حرائرها في عالم الاستعراض.
تدهشك حركة ابنة الخمسين وهي تتحرّك على المسرح المضاء غير معترفة بعمر، غير آبهة للقدر الذي غيّبها هي فقط فنانة رهيبة تتخطى الرهبة نحو المجد الذي سطرها أيقونة المسرح والسينما.
تعرض مسرحية “كوكو شانيل” من تأليف مدحت العدل وإخراج هادي الباجوري، على منصة شاهد بعد غياب دام لأكثر من 30 عاماً عقب عرض آخر أعمالها مسرحية “شارع محمد علي “مع فريد شوقي وهشام سليم في أوائل تسعينيات القرن الماضي.
شانيل الجدية التي صنعت الخلود في مسارها بدأت من تحت الصفر وحلقت عالياً حتى باتت أزياءها مشتهى الأثرياء، وعلامة فارقة لمن يبحث عن مكانة. هي التي كسرت كل الحواجز أمامها وأقامت ثورة في أفكارها وغيّرت كل المفاهيم في المجتمع الفرنسي وحرّرت المرأة من الثقل والقيود في اللباس، لتصل بها الى مرافئ الحرية . وشريهان تجد في هذه السيرة ما يخاطب وجدانها فهي المجبولة من أنين وجمال من تحد وصمود. تلتقي مع شانيل في ساحة الإبداع واحدة تمسك مقصاً وتشذّب القماش حضارة جديدة ومفهوم جديد، وأخرى تمسك ملامحها وجسدها وتحركه كأنها صياغة لحياة من معنى متدفقة كشلال نضرة كصباح. الفن مادتهما الاولى التي لا تنتهي. واحدة تتطوّع جسداً وحنجرة وترسم الحياة غناء ورقصاً واداء وتعبيراً يحمل كل المشاعر، وأخرى تجيد أن تلف الجسد ببطانيات سيكون لها الغد الذي لا يغيب.
كبيرتان كوكو شانيل وشريهان التحمتا في حكاية واحدة. فكانت الحكاية مشوّقة ستتناقلها كل الأجيال العابرة للتاريخ. حكاية تحد وحب وفن وجمال.